فصل: فتح مكة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  فتح مكة

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عقد الصلح بينه وبين قريش في الحُدَيْبِيةِ أدخل خُزَاعة في عقده المؤمن منهم والكافر وأدخلت قريش بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عقدها وكانت بينهم تِراثٌ في الجاهلية وذحول كان فيها الأول للأسود بن رزق من بني الدُئِل بن بكر بن عبد مناة وثأرهم عند خزاعة لما قتلت حليفهم مالك بن عباد الحَضْرَمِيَ وكانوا قد عقدوا على رجل من خُزَاعَةَ فقتلوه في مالك بن عباد حليفهم وعَدَتْ خُزاعَةُ على سَلْمَى وكُلثُومَ وذؤيب بني الأسود بن رزق فقتلوهم وهم أشراف بني كنانة‏.‏ وجاء الإسلام فاستغل الناس به ونسوا أمر هذه الدماء‏.‏ فلما انعقد هذا الصلح يوم الحديبية وأمن الناس بعضهم بعضاً فاغتنم بنو الدئل هذه الفرصة في إدراك الثأر من خزاعة لقتلهم بني الأسود بن رزق‏.‏ وخرج نوفل بن معاوية الدؤلي فيمن أطاعه بني بكر بن عبد مناة وليس كلهم تابعه‏.‏ وخرج معه بعضهم وخرجوا منهم وانحجزوا في دور مكة ودخلوا دار بُدَيْلَ بن ورقاء الخُزَاعيِّ ورجع بنو بكر وقد انتقض العهد فركب بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم في وفد من قومهم إلى رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم مستغيثين مما أصابهم به بنو الدئل بن عبد مناة وقريش فأجاب صلى الله عليه وسلم صريخهم وأخبرهم أنّ أبا سفيان يأتي يشدّ العقد ويزيد في المدة وإنه يرجع بغير حاجة‏.‏ وكان ذلك سبباً للفتح وندم قريش على ما فعلوا فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليؤكد العقد ويزيد في المدة ولقي بديل بن ورقاء بعَسْفانَ فكتمه الخبر وورَّى له عن وجهه‏.‏ وأتى أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم حبَيْبَةَ فطوت دونه فراش النبي صلى الله عليه وسلم وقالت‏:‏ لا يجلس عليه مشرك‏!‏ فقال لها‏:‏ قد أصابك بعدي شرّ يا بنيَّتي‏.‏ ثم أتى المسجد وكلِّم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه‏.‏ فذهب إلى أبي بكر وكلمه أن يتكلَّم في ذلك فأبى فلقي عمر فقال‏:‏ واللهّ لو لم أجد إِلا الذرّ لجاهدتكم به‏.‏ فدخل على عليّ بن أبي طالب وعنده فاطمة وابنه الحسن صبياً فكلمه فيما أتى له فقال عليّ‏:‏ ما نستطيع‏.‏ أن نكلِّمه في أمر عزم عليه فقال لفاطمة‏:‏ يا بنت محمد‏!‏ أما تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس‏.‏ فقالت‏:‏ لا يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عليّ‏:‏ يا أبا سفيان‏!‏ أنت سيد بني كنانة فقم فأجر وارجع إلى أرضك‏.‏ فقال‏:‏ ترى ذلك مُغْنِياً عني شيئاً‏.‏ فقال‏:‏ ما أظنه‏!‏ ولكن لا أجد لك سواه‏.‏ فقام أبو سفيان في المسجد فنادى‏:‏ ألا إني قد أجريت بين الناس ثم ذهب إلى مكة وأخبر قريشاً فقالوا‏:‏ ما جئت بشيء وما زاد ابن أبي طالب على أن لعب بك‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ثم أعلم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إنه سائر إلى مكة وأمر الناس بأن يتجهزوا ودعا الله أن يطمس الأخبار عن قريش‏.‏ وكتب إليهم حاطِبُ بن أبي بَلْتَعَةَ بالخبر مع ظَعِينَةٍ قاصدة إِلى مكة فأوحى الله إِليه بذلك فبعث عليأ والزبير والمقداد إلى الظعينة فأدركوها بروضة خاخ وفتشوا رحلها فلم يجدوا شيئاً وقالوا‏:‏ رسول اللّه أصدق فقال علي‏:‏ لتخرجنّ الكتاب أو لتلقينّ الحوائج فأخرجته من قرون رأسها‏.‏ فلما قرىء على النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ما هذا يا حاطب فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ واللّه ما شككت في الإسلام‏!‏ ولكني ملصق في قريش فأردت عندهم يداً يحفظوني بها في مخلف أهلي وولدي فقال عمر‏:‏ يا رسول الله‏!‏ دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال‏:‏ وما يدريك يا عمر لعلّ اللّه اطلع على أهل بدر فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم‏.‏ وخرج صلى الله عليه وسلم لعشر خلون من رمضان من السنة الثامنة في عشرة آلاف فيهم من سُلَيْم ألف رجل وقيل سبعمائة‏.‏ ومن مُزَيْنَةَ ألف ومن غِفَارٍ أربعمائة ومن أسلم أربعمائة وطوائف من قريش وأسدٍ وتميم وغيرهم‏.‏ ومن سائر القبائل جموع وكتائب اللّه المهاجرين والأنصارَ‏.‏ واستخلف أبا رَهْمٍِ الغِفاري على المدينة ولقيه العباس بذي الحليفة وقيل بالجَحْفَةِ مهاجراً‏.‏ فبعث رحله إلى المدينة وانصرف معه غازياً ولقيه بشق العقاب أبو سفيان بن الحرث وعبد الله بن أبي أمية مهاجرين واستأذنا فلم يؤذن لهما وكلمته أم سلمة فأذن لهما وأسلما فسار حتى نزل مرّ الظهران وقد طوى اللّه أخباره قريش إلا أنهم يتوجسون الخيفة‏.‏ وخشي العباس تلافي قريش إِن فاجأهم الجيش أن يستأمنوا فركب بغلة النبي صلى الله عليه وقد خرج أبو سفيان وبدَيْلُ بن ورقاءَ وحكيم بن حِزام يتجسسون الخبر‏.‏ وبينما العباس قد أتى الأراك ليلقي من السابِلَةِ من ينذر أهل مكة إذ سمع صوت أبي سفيان وبديل وقد أبصرا نيران العساكر فيقول بُديلْ نيران بني خزاعة فيقول أبو سفيان خزاعة أذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها‏.‏ فقال العباس‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس واللّه إن ظفر بك ليقتلنك وأصباح قريش فارتدف خلفي‏.‏ ونهض به إلى المعسكر ومر بعمر فخرج يشتد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ الحمد لله الذي أمكنني منك بغير عقد ولا عهد‏.‏ فسبقه العباس على البغلة ودخل على أثره فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ هذا عدوّ الله أبو سفيان أمكنني اللّه منه بلا عهد فدعني أضرب عنا فقال العباس‏:‏ قد أجرته‏!‏ فزاره عمر فقال العباس‏:‏ لو كان من بني عديّ ما قلت هذا ولكنه من عبد مناف‏.‏ فقال عمر‏:‏ والله لإسلامك كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لأني أعرف أنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك‏.‏ فأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم العباس أن يحمله إلى رحله ويأتيه به صباحأ‏.‏ فلما أتى به قال له صلى الله عليه وسلم ألم يأنِ لك أن تعلم أن لا إله إلا الله‏.‏ فقال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك‏.‏ والله لقد علمت لو كان معه إله غيره أغنى عنا فقال‏:‏ ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله قال‏:‏ بأبيِ أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه فإن في النفس منها حتى الأن شيئاً‏.‏ فقال له العباس‏:‏ ويحك أسلم قبل أن يضرب عنقك فأسلم‏.‏ فقال العباس يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً‏.‏ قال نعم‏!‏ من دخل دار سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن‏.‏ ثم أمر العباس أن يوقِفَ أبا سفيان بخطم الوادي ليرى جنود الله ففعل ذلك ومرت به القبائل قبيلة قبيلة إلى أن جاء موكب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار عليهم الدروع البيض‏.‏ فقال من هؤلاء فقال له العباس‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار فقال لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً‏.‏ فقال يا أبا سفيان إِنها النبوة‏.‏ فقال‏:‏ فهي إذأ‏.‏ ققال له العباس‏:‏ النجاء إلى قومك فأتى بهم مكة وأخبرهم بما أحاط بهم وبأمان رسول الله وبقول النبي صلى الله عليه وسلم من أتى المسجد أو دار أبي سفيان أو أغلق بابه‏.‏ ورتب الجيش وأعطى سعد بن عبادة الراية فذهب يقول‏:‏ اليَوْمُ يَوْمُ المَلْحَمَةْ اليَوْمُ تُسْتَحَل الحَرَمَةْ وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر علياً أن يأخذ الراية منه ويقال أمر الزبير وكان على الميمنة خالد بن الوليد ومنها أسْلَم وغِفَارٌ ومُزَيْنَةُ وجُهَيْنَةُ وعلى الميسرة الزبَيْر وعلى المُقدمَةِ أبو عُبَيدَةَ بن الجراح‏.‏ وسرَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش من ذي طُوَى وأمرهم بالدخول إِلى مَكَة‏.‏ الزُبَيْرُ من أعلاها وخالِدُ من أسفلها وأن يقاتلوا من تعرض لهم‏.‏ وكان عِكْرِمَةُ بن أبي جَهْل وصَفْوَانُ بن أُمَيًةَ وسُهَيْلُ بن عمرو قد جمعوا للقتال‏.‏ فناوشهِم أصحاب خالد القتال واستُشْهِد من المسلمين كَرَزُ بن جابر من بني محارب وَخُنيْسُ بن خالد من خُزَاعَةَ وسلمة بن جُهَيْنَةَ وانهزم المشركون وقتل منهم ثلاثة عشر وأمّن النبي صلى الله عليه وسلم سائر الناس‏.‏ وكان الفتح لعشر بقين من رمضان وأهدر دم جماعة من المشركين سماهم يومئذ‏:‏ منهم عبدُ العُزّى بن خَطْلٍ من بني تميم والأدْرَمً بن غالب كان قد أسلم وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصدَقاً ومعه رجل من المشركين فقتله وارتدّ ولحق بمكة‏.‏ وتعلق يوم الفتح بأستار الكعبة فقتله سعد بن حُرَيْثٍ المخزومي وأبو بَرْزَةَ الأسْلَمِيّ‏.‏ ومنهم عبد الله بن سعيد بن أبي سَرْح كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد ولحق بمكة‏.‏ ونمِيَت عنه أقوال فاختفى يوم الفتح وأتى به عثمان بن عفَان وهو أخوه من الرضاعة فاستأمن له فسكت عليه السلام ساعة ثم أمنه‏.‏ فلما خرج قال لأصحابه‏:‏ هلا ضربتم عنقه‏!‏ فقال له بعض الأنصار هلاَّ أومأت إليّ فقال‏:‏ ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين ولم يظهر بعد إسلامة إلا خير وصلاح واستعمله عمر وعثمان‏.‏ ومنهم الحويرث بن نفيل من بني عبد بن قُصَيّ كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عدا على رجل من الأنصار كان قتل أخاه قبل ذلك غلطاً ووداه فقتله وفر إلى مكة مرتداً‏.‏ فقتله يوم الفتح نُمَيْلَة بن عبد الله اللَيْثيّ وهو ابن عمه‏.‏ ومنهم قَيْنتا ابنِ خَطْل كانتا تغنيان بهجوِ النبي صلى الله عليه وسلم فقتلت إحداهما واستؤمن للأخرى فأمنها‏.‏ ومنهم مولاةٌ لبني عبد المُطلِبِ اسمها سارة واستؤمن لها فأمنها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ واستجار رجلان من بني مخزوم بأم هاني بنت أبي طالب‏.‏ يقال إنهما الحرث بن هشام وزهير بن أبي أمية أخو أم سلمة فأمنتهما‏.‏ وأمضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمانهما فأسلما‏.‏ ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وطاف بالكعبة وأخذ المفتاح من عثمان بن طلحة بعد أن مانعت دونه أم عثمان ثم أسلمته‏.‏ فدخل الكعبة ومعه أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة وأبقى له حجابة البيت فهي في ولد شيبة إلى اليوم‏.‏ وأمر بكسر الصور داخل الكعبة وخارجها وبكسر الأصنام حواليها‏.‏ ومرّ عليها وهي مسدودة بالرصاص يشير إليها بقضيب في يده وهو يقول‏:‏ جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً‏.‏ فما بقي منهم صنم إلاَ خر على وجهه وأمر بِلالاً فأذّن على ظهر الكعبة‏.‏ ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بباب الكعبة ثاني يوم الفتح وخطب خطبته المعروفة ووضع مآثر الجاهلية إلا سِدَانَةَ البيت وسِقَايَةَ الحاج‏.‏ وأخبر أن مكة لم تحلّ لأحد قبله ولا بعده وإنما أُحلت له ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس ثم قال لا إله الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده ألا إِن كل مأثورة أو دم أو مال يدَّعى في الجاهلية فهو تحت قدميِّ هاتين إلا سِدانَةَ الكعبة وسِقايَةَ الحاج‏.‏ ألا وإِن قتل الخطأ مثل العمد بالسوط والعصا فيهما الدِيَة مغلظة منها أربعون في بطونها أولادها‏.‏ يا معشر قريش إِن اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتَعَظُّمَهَا بالآباء الناس من آدَمَ وآدم خلق من تراب‏.‏ ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يا أيها الناس إِنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبأ وقبائل لتعارفوا إن أكرمَكم عند اللّه أتقاكم إِن اللّه عليم خبير ‏"‏‏.‏ يا معشر قريش ويا أهل مكة ما ترون أني فاعل فيكم قالوا خيراً‏!‏ أخ كريم ثم قال‏:‏ اذهبوا فأنتم الطلقاء وأعتقهم على الإسلام وحبس لهم فيما قيل على الصفا فبايعوه على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا ولما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء‏.‏ أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يبايعهن واستغفر لهن رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم لأنه كان لا يمس امرأة حلالاً ولا حراماً‏.‏ وهرب صفوان بن أمية إلى اليمن واتبعه عمير بن وهب من قومه بأمان النبي صلى الله عليه وسلم له فرجع وانذره أربعة أشهر‏.‏ وهرب ابن الزبير الشاعر إلى نجران ورجع فأسلم وهرب هُبَيْرَةُ بن أبي وهب المخزومِيّ زوج أم هاني إلى اليمن فمات هنالك كافراً‏.‏ ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم السرايا حول مكة ولم يأمرهم بقتال وفي جملتهم خالد بن الوليد إلى بني جُذَيْمَةَ بن عامر بن عبد مناة ابن كنانة فقتل منهم وأخذ ذلك عليه وبعث إليهم عليًّا بمال فودى لهم قتلاهم ورد عليهم ما أخذ لهم‏.‏ ثم بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خالداً إلى العزى بيت بنخلة كانت قصر تعظمه من قريش وكنانة وغيرهم‏.‏ وسدنة بنو شَيْبَان من بني سُلَيْم حلفاء بني هاشم فهزمهم‏.‏ ثم أن الأنصار توقفوا إلى أن يقيم صلى الله عليه وسلم بمكة داره بعد أن فتحها فأهمهم ذلك وخرجوا له فخطبهم صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أن المَحْيا مَحْياهُم والممات مماتهم فسكتوا لذلك واطمأنّوا‏.‏ غزوة حنين وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ة خمس عشرة ليلةً وهو يقصر الصلاة فبلغه أن هوازِنَ وثَقِيفَ جمعوا له وهم عامِدون إِلى مكّة وقد نزلوا حنَيْنآَ وكانوا حين سمعوا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة يظنون أنه إنما يريدهم‏.‏ فاجتمعت هوازن إلى مالك بن عوْفٍ من بني النضَيْرِ وقد أوعب معه بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وبني جَشَم بن معاوية وبني سَعْدِ بن بكرٍ وناساً من بني هلال بن عامر بن صَعْصَعَةَ بن معاوية والأحلاف من بني مالك بن ثقيف بن بكر ولم يحضرها من هوازن كعب ولا من كلاب وفي جشم دُرَيْد بن الصِّمَّة بن بكر بن علقمة بن خُزاعَةَ بن أزِيةَ بن جشم رئيسهم وسيدهم شيخ كبير ليس فيه إِلا لِيُؤتَمً برأيه ومعرفته‏.‏ في ثقيف سيدان ليس لهم في الأحلاف إِلا قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب وفي بنيِ مالك ذو الخِمارِ سُبَيْعُ بن الحرث بن مالك وأخوه أحْمَرُ وجمع أمر الناس إلى مالك بن عوف‏.‏ فلما أتاهم أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد فتح مكة أقبلوا عامدين إِليه‏.‏ وساق مالك مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم يرى أنه أثبت لموقفهم فنزلوا بأوْطاسَ‏.‏ فقال دريد بن الصمة لمالك‏:‏ ما لي اسمع رُغاءَ البعير ونهاقَ الحمار وبِعار الشاء وبكاء الصغير‏.‏ فقال‏:‏ أموال الناس وابناؤهم سقنا معهم ليقاتلوا عنها فقال‏:‏ راعي ضأن والله وهل يرد المنهزم شيء‏.‏ إِن كانت لك لم ينفعك إِلأَ رجل بسلاحه وإِن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك‏.‏ ثم سأل عن كَعْبِ كلاب وأسف لغيابهم وأنكر على مالك رأيه ذلك وقال‏:‏ لم تصنع بتقديم نقيضة هوازَن إلىً نحور الخيل شيئاً أرفعهم إلى ممتنع بلادهم ثم ألق الصبيان على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من ورائك وإن كانت لغيرك كنت قد أحرزت أهلك ومالك‏.‏ وأبي عليه مالك واتبعه هوازن‏.‏ ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حَدرَد الأسْلَمِيّ يستعلم بخبر القوم فجاءه وأطلعه على جَلِيَّةِ الخبر وانهم قاصدون إليه فاستعار رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم من صَفْوَانَ بن أمية مائة درع وقيل أربعمائة وخرج في اثني عشر ألفاً من المسلمين عشرة آلاف الذين صحبوه من المدينة وألفان من مسلمة الفتح‏.‏ واستعمل على مكة عِتابَ بن أُسَيْدِ بن أبي العيص بن أمية ومضى لوجهه وفي جملة من اتبعه عًبّاسُ بن مِرداسَ والضَحّاكُ بن سُفْيانَ الكِلابيّ وجموعٌ من عَبْسٍ وذُبْيَانَ ومُزَيْنَةَ وبني أسَدٍ‏.‏ ومر في طريقه بشجرة سِدر خضراء وكان لهم في الجاهلية مثلها يطوف بها الأعراب ويعظمونها ويسمونها ذات أنْوَاطٍ‏.‏ فقال له جفاة الأعراب يا رسول الله‏!‏ اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط‏.‏ فقال لهم‏:‏ قلتم كما قال قوم موسى‏:‏ إجعل لنا إِلهاً كما لهم آلهة‏.‏ والذي نفسي بيده لتركبَنّ سنن من كان قبلكم وزجرهم عن بذلك‏.‏ ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تَهَامَةَ أول يوم من شوال من السنة الثامنة وهو وادي الحزن فتوسطه في غبش الصبح وقد كمنت هوازن جانبيه فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد وناداهم صلى الله عليه وسلم فلم يرجعوا‏.‏ وثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان بن الحرث وابنه جعفر والفضل وقثم ابنا العباس وجماعة سواهم والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء دَلْدَلَ والعباس آخذ بشكائمها وكان جهير الصوت فأمره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن ينادي بالأنصار وأصحاب الشجرة وقيل وبالمهاجرين‏.‏ فلما سمعوا الصوت وذهبوا ليرجعوا فصدهم ازدحام المنهزمين أن يثنوا رواحلهم فاستقاموا وتناولوا سيوفهم وتراسهم واقتحموا عن الرواحل راجعين إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد اجتمع منهم حواليه نحو المائة فاستقبلوا هوازن والناس متلاحقون‏.‏ واشتدت الحرب وحمي الوطيس وقذف اللّه في قلوبهم هوازن الرعب حين وصلوا إلى رسول الله فلم يملكوا أنفسهم فولوا منهزمين ولحق آخر الناس وأسرى هوازن مغلولة بين يديه وغنم المسلمون عيالهم وأمولهم واستحر القتل في بني مالك من ثقيف فقتل منهم يومئذ سبعون رجلاً في جملتهم ذو الخمار وأخوه عثمان ابنا عبد الله بن ربيعة بن حبيب سيداهم‏.‏ وأما قارب بن الأسود سيد الأحلاف من ثقيف ففر بقومه منذ أول الأمر وترك رأيته فلم يقتل منهم أحد ولحق بعضهم بنخلة وهرب مالك بن عوف النصري مع جماعة من قومه فدخلوا الطائف مع ثقيف واتجهت طوائف من هوازن إلى أوطاس واتبعتهم طائفة من خيل المسلمين الذين توجهوا من نخلة فأدركوا فيهم دريد بن الصمة فقتلوه‏.‏ يقال قتله ربيعة بن رافع بن أهبان بن ثعلبة بن يربوع بن سِماك بن عوف بن امرىء القيس‏.‏ وبعث صلى الله عليه وسلم إلى من اجتمع بأوطاس من هوازن أبا عامر الأشعري عم أبي موسى فقاتلهم وقتل بسهم رماه به سَلَمَةُ بن دُرَيْدَ بن الصِّمًةِ فأخذ أبو موسى الراية وشدّ على قاتل عمه فقتله وانهزم المشركون واستحرّ القتل في بني رباب من بني نصر بن معاوية وانفضت جموع هوازن كلها‏.‏ واستشهد من المسلمين يوم حنين أربعة منهم‏:‏ أيمن ابن أم أيمن أخو أسامة لأمه ويزيد بن زمعة بن الأسود وسراقة بن الحرث من بني العجلان وأبو عامر الأشعري‏.‏ حصار الطائف ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبايا والأموال فحبست بالجعرانة بنظر مسعود بن عمرو الغِفاري وسار من فوره إلى الطائف فحاصر بها ثقيف خمس عشرة ليلة وقاتلوا من وراء الحصون وأسلم من كان حولهم من الناس وجاءت وفودهم إليه‏.‏ وقد كان مر في طريقه بحصن مالك بن عوف النصري فأمر بهدمه ونزل على أطم لبعض ثقيف فتمنع فيه صاحبه فأمر بهدمه فأمر بهدمه فاخرب وتحصنت ثقيف‏.‏ وقد كان عروة بن مسعود وغيلان بن سلمة من ساداتهم ذهبا إلى جرش يتعلمان صنعة المجانيق والدبابات للحصار لما أحسوا من قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِياهم فلم يشهدا الحصار ولا حنيناً قبله‏.‏ وحاصرهم المسلمون بضع عشرة أو نصف شهر أو بضع وعشرين ليلة‏.‏ واستشهد بعضهم بالنبل ورماهم صلى الله عليه وسلم بالمنجيق‏.‏ ودخل نفر من المسلمين تحت دبابة ودنوا إلى سور الطائف فصبوا عليهم سكك الحديد المحماة ورموهم بالنبل فأصابوا منهم قوماً‏.‏ وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناقهم‏.‏ ورغب إليه ابن الأسود بن مسعود في ماله وكان بعيدأ من الطائف وكفّ عنه‏.‏ بثم رحل عن الطائف وتركهم ونزل أبو بكرة فاسلم‏.‏ واستشهد من المسلمين في حصاره سعيد بن سعيد بن العاص وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة أخو أم سلمة وعبد الله بن عامر بن ربيعة العَنَزِي حليف بني عَدِي في آخرين قريباً من إثني عشر فيهم أربعة من الأنصار‏.‏ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجَعْرَانَةِ وأفاه هنالك وفد هوازن مسلمين راغبين فخيرهم بين العيال والأبناء والأموال فاختاروا العيال والأبناء‏.‏ وكلموا المسلمين في ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم‏.‏ وقال المهاجرون والأنصار‏:‏ ما كّان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم وامتنع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن أن يردا عليهم ما وقع لهما من الفيء وساعدهما قومهما‏.‏ وامتنع العباس بن مرادس كذلك وخالفهم بنو سُلَيْمَ وقالوا‏:‏ ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فعرض رسول صلى الله عليه وسلم من لم تطب نفسه عن نصيبه وردّ عليهم نساءهم وأبناءهم بأجمعهم‏.‏ وكان عدد سُبِي هوازن ستة آلاف بين ذكر وانثى فيهن الشيما أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة وهي بنت الحرث بن عبد العُزَّى من بني ساعدة بن بكر من هوازن وأكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسن إليها وخيرها فاختارت قومها فردها إليهم وقسم الأموال بين المسلمين‏.‏ ثم أعطى من نصيبه من خمس الخمس قوماً يستألفهم على الإسلام من قريش وغيرهم‏.‏ فمنهم من أعطاه مائة مائة ومنهم خمسين خمسين ومنهم ما بين ذلك ويسمون المؤلفة وهم مذكورون في كتب السير يقاربون الأربعين‏:‏ منهم أبو سفيان وابنه معاوية وحكيم بن خِزام وصفوان بن أمية ومالك بن عوف وغيرهم‏.‏ ومنهم عُيَيْنَةُ بن حصن بن حذيفة بن بدر والأقرع بن حابس وهما من أصحاب المائة‏.‏ وأعطى ابن عباس بن مرادس دونهما فأنشده أبياته المعروفة يتسخًط فيها فقال‏:‏ اقطعوا عني لسانه فأتموا إليه المائة ولما أعطى المؤلفة قلوبهم وَجِدَ الأنصار في أنفسهم إِذا لم يعطهم مثل ذلك وتكلم شبانهم مع ما كانوا يظنون أنه إذا فتح الله عليه بلده يرجع إلى قومه ويتركهم فجمعهم ووعظهم وذكرهم وقال‏:‏ إنما أعطي قوماً حديثي عهد بالإسلام أتألفهم عليه أما ترضون أن ينصرف الناس بالشاء والبعير وتنصرفوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكمٍ لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار‏.‏ ولو سلك الأنصار شِعْباً وسلك بالناس شِعْبا لسلكت شعب الأنصار فرضوا وافترقوا‏.‏ ثم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجَعْرَانَةِ إلى مكة ثم رجع إلى المدينة فدخلها لست بقين من ذي القعدة من السنة الثامنة لشهرين ونصف من خروجه واستعمل على مكة عتابَ بن أسَيْد شاباً ينيف عمره علي عشرين سنة وكان غلبه الورع والزهد فأقام الحج بالمسلمين في سنته وهو أول أمير أقام حج الإسلام وحج المشركون على مشاعرهم‏.‏ وخلف بمكة معاذ بن جبل يُفَقِّهُ الناس في الدين ويعلمهم القرآن وبعث عمرو بن العاص إلى أهل حنين وعمرو الجلندي من الأزد بعمان مصدقاً فأطاعوا له بذلك واستعمل صلى الله عليه وسلم مالك بن عوف على من أسلم من قومه ومن سلم منهم وما له حوالي الطائف من ثقيف‏.‏ وأمره بمغادرة الطائف من التضييق عليهم ففعل حتى جاؤوا مسلمين كما يذكر بعد‏.‏ وحسن إسلام المؤلفة قلوبهم ممن أسلم يوم الفتح أو بعده وإن كانوا متفاوتين في ذلك‏.‏ ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم كَعْبُ بن زُهَير فأهدر دمه وضاقت به الأرض وجاء فأسلم وأنشد النبي صلى الله عليه وسلم قصيدتهَ المعروفة في مدحه التي أوَلها‏:‏ بانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي اليَوْمَ مَتْبُولُ الخ‏.‏ وأعطاه بُرْدَةً في ثواب مدحه فاشتراها معاوية من ورثته بعد موته وصار الخلفاء يتوارثونها شعاراً‏.‏ ووفد في السنة تسع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بنو أسد فأسلموا وكان منهم ضِرارُ بن الأزوَرِ وقالوا‏:‏ قدمنا يا رسول الله قبل أن يرسل إلينا فنزلت‏:‏ ‏"‏ يَمُنُّون عليك أن أسلَموا ‏"‏ الآية‏.‏ ووفد فيها وفدتين في شهر ربيع الأول ونزلوا على رُوَيْفِع بن ثابت البَلَوي وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد منصرفه من الطائف في ذي الحجة إلى شهر رجب من السنة التاسعة‏.‏ ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم وكان في غزواته كثيراً ما يوري بغير الجهة التي يقصدها على طريقة الحرب إلا ما كان من هذه الغزاة لعسرها بشدّة الحرب وبعد البلاد وفصل الفواكه وقَلّة الظلال وكثرة العدو الذين يصدون‏.‏ وتجهزّ الناس على ما في أنفسهم من استثقال ذلك وطفق المنافقون يثبطونهم عن الغزو وكان نفر منهم يجتمعون في بيت بعض اليهود فأمر طلحة بن عبيد اللهّ أن يخرب عليهم البيت فخربها واستأذن ابن قيس من بني سلمة في العقود فأذن له وأعرض عنه‏.‏ وانتدب كثير من المسلمين للإنفاق والحَمْلان وكان من أعظمهم في ذلك عثمان بن عفّان يقال إنه أنفق فيها ألف دينار وحمل على تسعمائة بعير ومائة فرس وجهز ركاباً‏.‏ وجاء بعض المسلمين يستحمل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلم يجد ما يحملهم عليه فتولوا باكين لذلك‏.‏ وحمل بعضهم يامين بن عمير النضير وهما أبو ليلى بن كعب من بني مازر ابن النجار وعبد الله بن مغفل المزني‏.‏ واعتذر المخلفون من الأعراب فعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم نهض وخلَف على المدينة محمد بن مسلمة وقيل بل شجاع بن عَرْفَطَةَ وقيل بل عليّ بن أبي طالب‏.‏ وخرج معه عبد الله بن أُبي بن سلول في عدد وعدة فلما سار صلى الله عليه وسلم تخلف هو فيمن تخلف من المنافقين‏.‏ ومر صلى الله عليه وسلم بالحجرعلى ديار ثمود فأمر أن لا يستعمل ماؤها ويعلف ما عجن منه للإبل وأذن لهم في بئر الناقة وأمر أن لا يدخلوا عليهم بيوتهم إِلا باكين ونهى أن يخرج أحد منفرداً عن صاحبه‏.‏ فخرج رجلان من بني ساعدة جُن أحدهما فمسح عليه فشفي والأخر رمته الريح في جبل طيء فردوه بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وضل صلى الله عليه وسلم عن ناقته في بعض الطريق فقال أحد المنافقين‏:‏ محمد يدعي علم خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته‏.‏ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ والله لا أعلم إلا ما علَمني اللّه وأن الناقة بموضع كذا وكان قد أوحي إليه بها فوجدوها ثَمَّ‏.‏ وكان قائل هذا القول زيد بن اللصيت من بني قينقاع وقيل إنّه تاب بعد ذلك‏.‏ وفضح الوحي قوماً من المنافقين كانوا يخذلون بالناس ويهولون عليهم أمر الروم فتاب منهم مخشي بن جهير ودعا أن يكفر عنه بشهادة يخفي مكانه فقتل يوم اليمامة‏.‏ ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى تبوك أتاه يُحَيْنَةُ بن رؤية صاحب أيْلَةَ وأهل وبعث صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أُكَيدِرَ بن عبد الملك صاحب دومة الجندل من كِنْدةَ كان ملكاً عليها وكان نصرانياً وأخبر أنه يجده يصيد البقر‏.‏ واتفق أن بقر الوحش باتت تهدَ القصر بقرونها فنشط أكيدر لصيدها وخرج ليلاً فوافق وصوله خالدأ فأخذه وبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنه وصالحه على الجزية وره وأقام بتبوك عشرين ليلة‏.‏ ثم انصرف وكان في طريقه ماء قليل نهى أن يسبق إليه أحد فسبق رجلان واستنفدا ما فيه فنكر‏.‏ عليهما ذلك‏.‏ ثم وضع يده تحت وشلة فصب ما شاء الله أن‏.‏ يصب ونضح بالوشل ودعا فجاش الماء حتى كفى العسكر‏.‏ وأخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك الموضع سمي جناباً ولما قرب من المدينة بساعة من نهار أنفذ مالك بن الدَّخْشَم من بني سُلَيْم ومعن بن عدي من بني العجلان إلى مسجد الضرار فأحرقاه وهدماه وقد كان جماعة من المنافقين بنوه وأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فسألوه الصلاة فيه فقال أنا على سفر ولو قدمنا أتيناكم فصلينا لكم فيه فلما رجع أمر بهدمه‏.‏ وفي هذه الغزاة تخلف كعبُ بن مالك من بني سلَمَةَ ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف وهلال بن أمية بن واقف وكانوا صالحين‏.‏ فنهى صلى الله عليه وسلم عن كلامهم خمسين يوماً ثم نزلت توبتهم‏.‏ وكان المتخلفون من غير عذر نيفاً وثلاثين رجلاً‏.‏ وكان وصوله صلى الله عليه وسلم من تبوك في رمضان سنة تسع وفيه كانت وفاتة ثقيف وإسلامهم‏.‏ ونزل الكثير من سورة براءة في شأن المنافقين وما قالوه في غزوة تبوك آخرِ غزوة غزاها صلى الله عليه وسلم‏.‏